الرواية الحقيقيـــة لتحريــر منتصر : قصة المفاوضات بين الخاطفين والأب لحظــة بلحظــة

Lien
الرواية الحقيقيـــة لتحريــر منتصر : قصة المفاوضات بين الخاطفين والأب لحظــة بلحظــة

تونس (الشروق):
رأينا في حلقة الأمس، كيف جرت عملية الاختطاف ومن اختطف الطفل منتصر، ولماذا تمّت عملية الاختطاف، لكن ماذا جرى بينهم وبين الأب؟ ماذا طلبوا؟ كيف توصّل المحققون إليهم؟ وكيف كانت لحظة السقوط وتحرير الطفل الرهينة؟
تمكّن الخاطفون من تخويف الطفل، ليظلّ صامتا داخل الغرفة التي حجزوه بها بشقّة بالطابق الرابع في عمارة بحي محمد علي بجهة رادس بالضاحية الجنوبية للعاصمة، كما كان الشقيقان اللذان أطلقا على نفسيهما اسم «سمير» و«نينجا» أمام الطفل للتمويه، وعندما يخرج أحدهما يظل الثاني بصدد حراسته وكان الخاطفان يفتحان جهاز الراديو أو جهاز التسجيل بصوت مرتفع لمنع خروج أي صوت ولمنع استماع الجيران لصوت الطفل أحيانا، فيما لم يبد منتصر أي مقاومة وكان هادئا في أغلب الأوقات، إذ لم يحاول الصراخ أو البكاء، وأرجع أحد المتهمين هدوء الطفل الرهينة الى ما كان يلقاه من معاملة جيدة، حسب قوله، إذ كانوا يلبّون كل طلباته ويعاملونه بليونة.
حكاية التبغ المهرّب
كان يسكن بالشقة خمسة أفراد ثلاثة منهم نفّذوا عملية الاختطاف بينهم شقيقان، ولم يكن حسب الأبحاث الصديقان الرابع والخامس على علم بوجود طفل داخل الغرفة المغلقة، وتساءل أحدهما عن سر إغلاقها بقفل معدني (كادنا) فأجابه أحد الخاطفين بأنه يحتفظ بداخلها على كمية من التبغ المهرّب للمتاجرة فيها، وأنه يخشى أن يدخلها أجنبي، وظلّ صديقهم على تلك الحالة دون أن ينتبه الى حقيقة الأمر، حسب التصريحات.
وقال أحد المتهمين «لقد كنت وشقيقي نتداول على مراقبة الطفل وقد اضطررنا في بعض الأحيان الى تركه بالغرفة بمفرده ثم نغلق الباب خاصة عندما يكون الصديقان الرابع والخامس خارج الشقة» وأضاف «أنهما لم يكونا على علم ولم يشاهدا الطفل اطلاقا».
نشر الغسيل
لأن سن الطفل ـ خمس سنوات ـ فإن أدباشه كانت تتسخ بسرعة وبسهولة، لذلك كان الخاطفون يضطرّون الى تنظيفه، ولا يقومون بذلك إلا عند خروج الصديقان الرابع والخامس، وكانوا يحكمون اغلاق الشقة ثم يغسلون أدباشه ويقومون بتجفيفها داخل الغرفة وذلك بنشرها خلف الباب أو بوضعها أمام جهاز الطهي (الغاز) بالمطبخ، وحسب بعض المصادر فإن الخاطفين كانا يتحدثان الى الطفل منتصر لطمأنته وأحيانا يقومان بتخويفه، وحسب مصادر خاصة، فإن الطفل منتصر كان يطلب منهما من حين الى آخر إرجاعه الى والدته وكانا يمنّيانه بقرب موعد رجوعه الى منزل والديه. كما كانا مهتمّان خاصة بأكله وما يطلبه من حلوى ولعب.
«ولدك عقب للجزائر»
أثناء ذلك، تكفّل الشقيقان الخاطفان بعمليات الاتصال بالأب، واتفقا على استعمال اللهجة الجزائرية في المكالمات الهاتفية مع الأب وذلك لتخويفه وإضفاء الجدية على العملية، وقال أحد الخاطفين إنه تحدث بلهجة جزائرية نزولا عند طلب شقيقه، وقال اننا أردنا أن نضع في اعتقاد والد الطفل منتصر أن ابنه يوجد فعلا في الجزائر، إذ قال له في احدى المكالمات، عندما سأله الأب عن مكان ابنه لقد رحّلنا ابنك الى الجزائر بلهجة جزائرية (ولدك عقب للجزائر) وقال له «عندما تعطينا الفلوس بعد خمس ساعات ولدك يروح حتى للدار» وأضاف الخاطف بأنهم كانوا يرمون من وراء ذلك التأمين على أنفسهم حتى يتمكنوا من الفرار وذلك بتمكينهم من وقت متسع عند حصولهم على المبلغ المالي ولا يتم إلقاء القبض عليهم.
نبرة مميزة
بعد أن اتفق الخاطفون على الاتصال بالأب، وبعد أن حصلوا على رقمه الشخصي من الشركة وطلب الشقيق الأكبر من شقيقه الاتصال بمقر الشركة الكائن بمقرين من مركز عمومي للاتصالات السلكية واللاسلكية (تاكسيفون) بباب العسل بعد أن أكد له بأنه يتحاشى الاتصال شخصيا حتى لا يتم التعرّف على صوته خاصة وأن نبرته مميزة وقد سبق له العمل معه بألمانيا ويمكنه أن يتعرّف عليه من صوته.
500 مليون أولى
حصل الخاطفون على رقم هاتف الأب وغيّروا محل الهاتف العمومي الى محل آخر بنفس الجهة واتصلوا بالأب وقال له الأخ الأصغر الخاطف «ما رأيك يا سي فلان (اسم الأب) جهّز 500» بلهجة جزائرية (واش رايك يا سي (فلان) حضّر 500) وقام بقطع الاتصال ثم رجعوا الى شقتهم برادس، وكان الأب يتصل بأعوان الأمن كلما تلقى اتصالا هاتفيا من الخاطفين.
في برشلونة
في الليلة الفاصلة بين الأربعاء 20 أكتوبر 2010 والخميس 21 أكتوبر، قضّى الشقيقان الخاطفان والطفل منتصر ليلتهم في نفس الغرفة، وفي اليوم الموالي، أي الخميس توجّه الخاطفان الى جهة باردو، فيما ظلّ الطفل وحيدا خائفا بالغرفة المغلقة.
اختار الخاطفان محلا عموميا للهاتف واتصلا بالأب إذ خاطبه الأخ الأصغر طبقا لنص تمّ إعداده مسبقا وباللهجة الجزائرية قائلا «واش راك يا سي (فلان) راهو الجماعة قالولك حضرلنا الفلوس في أقرب وقت» ثم قطع الاتصال، وقفلا راجعين الى رادس.
يوم الجمعة 22 أكتوبر بقي الأخ الأكبر الى جانب الطفل المختطف في الفترة الصباحية بعد أن كان الأصغر هو المتكفّل منذ الاختطاف بالبقاء الى جانبه.
في المساء توجّه الشقيقان الي محل للهاتف العمومي بمحطة برشلونة بتونس العاصمة، إذ دخل الأخ الأصغر للاتصال بوالد الطفل فيما بقي الأخ الأكبر خارج المحلّ.
كيف نجا «نينجا» وشقيقه؟
في لحظات صغيرة سارع أعوان الأمن وتوجهوا نحو محل «التاكسيفون» لمداهمته، فانسحب الأخ الأكبر، الذي كان يحرس المكان في آخر لحظة دون أن يعلم صديقه بالخطر، وقبل دخول أعوان الأمن المحل تمكن أيضا الأخ الأصغر من الافلات والخروج بأعجوبة.
شعر الخاطفون بأن محلات التاكسيفون في العاصمة أصبحت مراقبة بشكل مكثف لذلك توجّه اثنان من الخاطفين الثلاثة الى مدينة نابل واتصلا بالأب في حدود الساعة الثانية ظهرا لكنه لم يستجب للمكالمة، فرجعا الى العاصمة. وكنا أشرنا في عدد الأمس من «الشروق» بأن أعوان الحرس الوطني ألقوا القبض على أحد الخاطفين ثم أطلقوا سراحه بعد التحرير عليه.
قرّر الخاطف الثالث بعد تلك الحادثة العودة الى مدينة الميدة بولاية نابل حيث مسقط رأسه، وغادر رادس، ثم عاد ثانية الى رادس يوم الأربعاء 27 أكتوبر 2010 حيث لم يجد غير الخاطفين والطفل بالشقة فقام بجمع أدباشه وغادر الى بلدته، وطلب من الأخوين اطلاق سراح الطفل فوعده أحدهما بذلك.
بطاقة تعريف مرمية
بعد أن تبيّن للخاطفين، بأن محلات الهاتف العمومي أصبحت مراقبة وأنها أصبحت تمثل خطرا، وخشية من افتضاح أمرهم وإلقاء القبض عليهم، أحضر الأخ الأكبر شريحة هاتف جوال كان قد استخرجها باستعمال نسخة من بطاقة تعريف وطنية لشخص لا يعرفه، بعد أن عثر عليها ملقية بمحطة رادس مليان للقطار وقام بشحنها ثم سلمها لشقيقه الذي سمّى نفسه سمير الذي اشترى جهاز هاتف بمبلغ 13 دينارا من سوق سيدي عبد السلام قرب باب سعدون.
وفي شهر نوفمبر عاود الخاطفون الاتصال بوالد الطفل، وابتعدوا عن مقرّ إقامتهم برادس، إذ اتجه الذي سمّى نفسه سمير («اسم حركي») الى حي ابن خلدون غرب العاصمة على متن المترو ومن هناك اتصل بالأب وخاطبه بلهجة جزائرية وطلب منه توفير المبلغ المتفق عليه، واتفق معه على مقابلته في الساعة السادسة صباحا من اليوم الموالي أمام مقر شركة والده بمقرين وكان ذلك يوم 10 نوفمبر 2010 وقد حاول الخاطفان الاتصال بالأب صباحا، لكنهما لم يتمكنا ، إذ اكتشفا أنّ الشريحة أصبحت خارج الخدمة، إذ في حدود الساعة الواحدة ظهرا كان الأب بمقرّ الشركة فتلقى مكالمة عبر الهاتف القار من صوت أحد الخاطفين وكالعادة بلهجة جزائرية وسأله إن كان قد وفّر المبلغ المطلوب، وأبلغه بالقول (راهم الجماعة صعاب) فأجابه بأنه يتحوّز على المبلغ المطلوب، وطلب منه الاتصال به على رقم شخصي آخر لأنه لا يتردّد باستمرار على مقر الشركة.
ممنوع وضع الفضلات
بالفعل تلقى والد الطفل مكالمة هاتفية على نفس الرقم الذي أعطاه لمخاطبه واتفقا على اللقاء في اليوم الموالي على الساعة السادسة صباحا أمام مقر الشركة، كان الأب في الموعد لكن الخاطفين لم يتصلوا إذ أصبح الخط الذي استعملاه خارج الخدمة.
في مساء نفس اليوم 10 نوفمبر 2010 تلقى والد منتصر العديد من المكالمات الهاتفية من نفس الشخص كانت كلها حول طلب الفدية وهي 500 ألف دينار، وبعد أن أكد الأب تحوّزه على المبلغ، طلب منه مخاطبه بالهاتف التوجه الى الطريق الرابطة بين مقرين ورادس وكان يوجّهه ثم أمره بعد أن أضاع الطريق التوجّه نحو الطريق الجديدة برادس وطلب منه البحث عن علامة كتب عليها «ممنوع وضع الفضلات» على حاشية الطريق، وعندما عثر الأب على المكان، أمره مخاطبه بالتوقف وأعلمه بأنه سوف يجد صندوقا كرطونيا معدّا لحفظ الموز ففعل واستقر الأب بسيارته قرب الصندوق، ثم طلب منه إنارة أضواء السيارة ثم اطفائها، ففعل، لكن الخاطف لم يعاود الاتصال وكان ذلك في حدود الساعة السابعة إذ خشي من الأمر عندما لاحظ وجود عدد من السيارات واعتقد أنّ كمينا نصب له.
انقطع الاتصال
بعد تلك الحادثة بعشرة أيام، أي يوم 20 نوفمبر عاود الخاطفون الاتصال من جديد بالأب لتنسيق عملية تسليم الفدية، وتتالت الاتصالات من محلات تاكسيفون، ثم من رقم هاتف كان أحد الخاطفين قد استولى عليه من تاجر بسوق المنصف باي، وقال الأب لمخاطبه إنه يتحوّز على مبلغ 300 ألف دينار. وهو بالشركة، ثم أعيد الاتصال من جديد يوم 21 نوفمبر واتفقا على التفاصيل وقال المخاطب للأب «ما تلعبش بالغدرة يالخو» أي لا تغدر، ثم بعد ذلك وجهوا له ارسالية قصيرة وطلبوا منه في أكثر من مرة التوجه الى أماكن مختلفة بما في ذلك حي التضامن قبل أن يتراجعوا وغيروا مكان اللقاء برادس ثم انقطع الاتصال نهائيا.
السقوط في الهاوية
صباح يوم الثلاثاء السابع من شهر ديسمبر 2010، بلغت معلومات من قبل مفتشي شرطة متعلقة بالاشتباه في شخص وهو الشقيق الأصغر. وحسب مصادرنا الخاصة فلقد توجه الى محلّ للهاتف العمومي وشحن هاتفه الشخصي. وكان منطلق السقوط.
تحرّكت وحدات أمنية، وحاصروا المشتبه به، وتمكنوا من إلقاء القبض عليه وبالتحرير عليه اعترف بالعملية وأشار إليهم بأنّ الطفل في شقة برادس.
طفل في حقيبة يعانق خاطفه
أثناء ذلك، بلغ الى علم الأخ الأكبر المسمّى «نينجا»، خبر ايقاف شقيقه وشريكه في العملية، وفور علمه توجّه مسرعا الى الشقة وفتح الغرفة المغلقة والمظلمة التي كان منتصر محتجزا بداخلها، وأخذ حقيبة أدباش من الحجم الكبير وضع بداخلها الطفل لاخفائه، دون أن يغلقها بشكل تام وخرج من العمارة مسرعا بعد أن تأكد من خلو الطريق من المارة وكان يحمل الحقيبة بكلتا يديه وهي مفتوحة وبداخلها الطفل منتصر الذي كان يرتكز بساقيه على طرفها ويعانق بكلتا يديه مختطفه «نينجا» الذي ضمّه الى صدره باتجاه الطول، وكان يتخذ جميع الاحتياطات بعد التثبت في كل الأنهج التي يمرّ منها ثم توجّه به في مرحلة أولى الى سوق رادس للملابس القديمة دون أن يعترضه أي أحد، وكان ذلك في حدود العاشرة والربع صباحا تقريبا.
وقال الخاطف إنه كان متهيّأ لاغلاق الحقيبة في صورة مفاجأته من قبل أي شخص، وهو ما يعني تعريض حياة الطفل لخطر الاختناق.
مكث الخاطف صحبة الطفل الموضوع داخل الحقيبة تحت حائط وكان الطقس باردا، عندها قال الطفل منتصر الذي كان يشعر ببرد كبير لخاطفه أرجوك أن ترجعني الى الغرفة فأنا أشعر ببرد شديد، فلم يجبه، لكن الطفل أصرّ على طلبه، فلم يعره أي اهتمام.
ثم قرّر في مرحلة ثانية، بعد تفكير الفرار به نحو طريق الشاطئ برادس. وكان يحمله بنفس الطريقة وعندما وصل به الى مكان ناء، تركه داخل الحقيبة مهملا وحيدا للعراء والبرد والجوع... وقام بإخفائه بأغصان النخيل وغادر المكان فارا بسرعة، إذ توجّه الى حي ابن خلدون تاركا الطفل يواجه مصيره.
الطفل منتصر، من شدّة الخوف والبرد، ورغم أنه كان طليقا دون مراقبة فإنه بقي داخل الحقيبة المغطاة بأغصان النخيل دون حراك ولا صراخ فهو صغير، لا قدرة له على تحمّل ما جرى.
نهاية «نينجا» في ابن خلدون
وعودة منتصر
توجّه أعوان الأمن بسرعة الى شقة رادس واقتحموها، لكنهم لم يعثروا على الطفل، فقاموا بالتحرّي مع الأخ الأصغر الخاطف، الذي قال لهم إنّ شقيقه لن يفرّ لغير حي ابن خلدون حيث اعتاد التوجه.
تنقل أعوان الأمن على جناح السرعة الى حي ابن خلدون وتمكنوا من محاصرة «نينجا» والايقاع به نهائيا، وكانت النهاية.
وبسرعة أجبر «نينجا» على أن يدلّ المحققين على مكان الطفل، وتوجهوا بشكل أسرع، فوجدوا أغصان النخيل وقاموا بابعادها، ليجدوا الحقيبة وبداخلها منتصر طفلا نحيفا وبشكل فوري تمّ إبلاغ السلط المعنية وصدر الإذن بنقل الطفل الذي كان في حالة بدنية ونفسية قاسية وسيئة الى المستشفى العسكري، حيث تمّ عرضه على أطباء نفسيين وأطباء في اختصاصات مختلفة وأذاعت وكالة تونس افريقيا نبأ رجوع منتصر الى عائلته... وانطلقت الزغاريد والأفراح والتحقت الأم بابنها لتقيم معه بالمستشفى قبل أن يعود الى منزله محرّرا... ولم تنته الحكاية فجزء منها سيرويه المتهمون خلال الجلسات المقبلة.
أولى هذه الجلسات يوم 9 جوان الجاري ومن المرّجح أن يتمّ تأخيرها الى موعد آخر.
الرواية لن تكتمل إلاّ باكتمال كل عناصر المشهد.
Plus récente Plus ancienne

مواضيع مشابهة

مواضيع قد تعجبك